الحمد لله ذي العزة والجلال .. نحمده في النعماء كما نحمده في البلاء .. إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله .. إمام المتقين وسيد الأولين والآخرين عليه من الله أفضل صلاةٍ وأزكى تسليم .. وآله وصحبه الغر الميامين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين قال تعالى : ... وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282 سورة البقرة ) أما بعد:فيا أيها الناس:
إن سلامةَ الصدر وخُلُوَّه من الغَشَش والدَّخَن، وبراءةَ النفس من نَزعَة التشفِّي وحب الانتِصار من المُخطِئ تلبيةً لرغبَاتِ النفس المُنتشِيَة في مُعالَجة الخطأ بالقوةِ الضارِبةِ لهِي سِمةُ المؤمنِ الصالحِ الهيِّن الليِّن، الذي لا غِلَّ فيه ولا حسَدَ؛ إذ ما قيمةُ عيش المرءِ على هذه البَسيطةِ وقلبُه مُلبَّدٌ بحبِّ الذات، مُتفنِّنًا في الفَظَاظَةِ والغضَاضَة والغِلظَة، يُعزِّزُ من خلالها قسوةَ قلبه، وضِيقَ عطَنه، فيُصبِحُ سيِّئَ الطبع، سافِلَ الهمَّة، شرِهَ النفس، يأنَفُه الناسُ عند كل مرصَدٍ.
كثيرون هم الذين يبحَثون عن مصادر العِزَّة والفلاح مع كثرتها، وتنوُّع ضرُوبها، وقِلَّة المُؤنة في تحصيلها، دون إجلابٍ بخيلٍ ولا رَجِلٍ، إنما رِكابُها شيءٌ من قوة الإرادة، وذمٍّ للنفسِ عن تجرُّع حُظوظها المُتمثِّلة في الأنانية؛ فطِيبُ النفسِ، وحُسن الظنِّ بالآخرين، وقَبول الاعتذار، وإقالَةُ العَثرة، وكظمُ الغيظ، والعدلُ في النَّصَف أو العقوبة، كلها معاييرُ نقاءٍ وصفاءٍ، وعلاماتٌ للنفسِ الراقيةِ المُتشبِّثةِ بهديِ الإسلام الراقِي في التعامُل مع النفس ومع الآخرين.
ومتى ما خرجَ الانتصارُ للنفسِ ممن أخطأَ في حقِّها أو ظلمَها عن تلك الصور والمعايير؛ فإنه الولوجُ في دائرة حبِّ الانتقامِ، ولا شكَّ.
وإذا اصطبَغَت النفسُ بحبِّ الانتقام ووقعَت في أتونه؛ فإن الغِلظةَ والجَبَروت والبطشَ والإسرافَ والحَيف هي العلاماتُ البارِزةُ التي تحكُمُ شخصيةَ المرءِ الذي سيُشارُ إليه بالبَنَان على أنه رمزُ الظلمِ والنَّذَالة والوحشيَّة؛ لأن المعروفَ عن الانتقام أنه: إنزالُ العقوبةِ مصحوبةً بكراهيةٍ تصِلُ إلى حدِّ السَّخَط، والحقد، والإسرافِ في العقوبة.
الذي يُفرِزُه جنونُ العظمة وحبُّ القهر، كما قال فرعون: (( مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى)) [غافر: 29]، وكما جاء عن قوم عاد: (( فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً )) [فصلت: 15]. الانتقامُ يُذكَرُ غالبًا في معرِضِ الذمِّ؛ لكونه مقرونًا بالقسوةِ والغِلظةِ وموت الضمير، وعامةُ الناسِ لا يعرِفون منه إلا هذا المعنى.
وعندما حضَّنا الإسلامُ على العفوِ والتسامُحِ وكظمِ الغيظِ لم يُرِد لنا أن نكون ضُعفاء، ولا جُبَناء، ولا أن يغرِسَ في نفوسِنا الذِّلَّةَ والهَوَان، كلا؛ فإنما أرشدَنا إلى ذلكم ليُبيِّن لنا أن اللِّينَ والسماحَة هُما أفضلُ وسيلةٍ لاستلالِ السَّخِيمةِ والكُرْهِ من قلبِ من أساءَ إلينا.
ولذا فإن الانتقامَ مع ما فيه من القسوة والجبَروت فإنما هو علامةُ ضعفٍ لا قوةٍ، والضعفُ هنا يكمُنُ في أن الغِلظةَ والتشفِّي لهُما السيطرةُ في قلبِ المُنتقِم على التسامُح والاعتِدال، فمن هُنا صارَ المُنتقِمُ ضعيفًا؛ لأن سجِيَّة الشرِّ والحُمق والهوى هي الغالبةُ أمام نَزوَته ورغبته، وهذا سببُ الضعفِ لدى المُنتقِم؛ لأن التشفِّي طرفٌ من العَجزِ ليس بينه وبين الظالمِ إلا سترٌ رقيقٌ وحجابٌ ضعيفٌ.
ولقد كان من أميَز سِمات النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ، وأن رِسالتَه إنما هي رحمةٌ للعالمين، كما قال تعالى: (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء: 107]، وهذه الرحمةُ والشَّفَقةُ واللِّينُ التي أزهَرَت في فُؤاد النبي - صلى الله عليه وسلم - هي ما جعلَتْه يتلقَّى الثناءَ من العليِّ الأعلى من فوق سبعِ سماواتٍ: (( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ )) [القلم: 4]، (( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ )) [آل عمران: 159].
ومن هنا نُدرِكُ أن المُنتقِمَ كالأعمَى، لا يُدرِكُ ويُحِسُّ إلا بنفسه، المُنتقِمُ ليس أهلاً للعدل ولا للإنصافِ؛ لأن همَّتَه في تحقيق هدفه وشفاءِ غيظه، ليس إلا، فهو عدوُّ عقله؛ لأنه يشينُ حُسنَ الظَّفَر فيقبُحُ بالانتِقام دون أن يتزيَّن بالعفو أو القصد.
المُنتقِمُ بليدُ الإحساسِ، قد تجرَّدَ من العاطفة، إذا استُغضِبَ زَأرَ، وإذا زأَرَ افترَسَ، وإذا افترسَ أوجعَ، وإذا كان القتلُ يُعدُّ من أنكَى جِراحات الحياة، فإن الله - جل وعلا - قال فيه: (( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا )) [الإسراء: 33].
غيرَ أن المُنتقِمَ من الناس لا يقِفُ عند هذا الحدِّ، ولن يُدرِكَ عقلُه ولُبُّه قولَ الله تعالى: (( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ )) [النحل: 126]، فهذه الآيةُ دلَّت على الانتِصار من الظالمِ، لكنها في الوقتِ نفسِهِ بيَّنَت أن العفوَ أخيَرُ وأفضلُ، (( فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ )) [الشورى: 40]،
ومن أراد أن يلِجَ التقوى من أسهل أبوابها فليعمل بقول الله - جل وعلا -: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة: 237].
لقد ضربَ الانتقامُ والتشفِّي بأطنابِه في قلوب بعضِ الناسِ، وقد ظهرَ ذلك جلِيًّا في تعامُل الأبِ مع ابنِه أو أخيه، أو الزوجِ مع زوجته، فلربما ضربَها، أو حبسَها، أو علَّقَها فلا هي زوجة ولا هي مُطلَّقة، وأذاقَها صُنوف الهوان والذلِّ والإيلام، كلُّ ذلك انتِقامًا وبَطشًا وانتِصارًا لرُجولةٍ زائفةٍ، وقلبٍ مُلتاثٍ، وقولوا مثلَ ذلكم في تعامُل جارٍ مع جارِهِ، أو مُديرٍ مع موظَّفٍ، أو أُسرةٍ مع خادمها، أو ما شابَهَ ذلكم من أمثلةِ تبلُّدِ الإحساسِ والدُّونيةِ في التعامُلِ مع الآخرين بعيدًا عن مبادِئِ الدِّين الحنيفِ والأخلاقِ الحميدة.
وليتَ أمثالَ هؤلاء يُدرِكون جيِّدًا أن أفضلَ وسيلةٍ للانتِقام ممن أساؤوا إليهم: هي ألا يكونوا مثلَهم في الإساءة؛ ليزدادوا حقارةً لأنفسهم، وامتِهانًا لسَجَايَاهم؛ فقد جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إن لي قرابةً أصِلُهم ويقطعُوني، وأُحسِنُ إليه ويُسيؤُون إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويجهَلون عليَّ. فقال: «لئن كنتَ كما قلتَ فكأنما تُسِفُّهم المَلَّ، ولا يزالُ معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دُمتَ على ذلك»؛ رواه مُسلم.
والمعنى: فكأنما تُلقِمُهم الرَّمادَ الحارَّ في أفواههم.
وقد قال جعفرُ الصادقُ - رحمه الله تعالى -: "لأَن أندمَ على العفوِ عشرين مرةً أحبُّ إليَّ من أن أندمَ على العقوبةِ مرةً واحدةً".
وقد جرَت سنةُ الله أن من انتقَمَ ممن هو دونه انتقَمَ منه من هو فوقَه، وسُنَّةُ الله لا تُحابِي أحدًا.
ولأجل هذا - عباد الله - فإن لذَّة العفو أطيبُ من لذَّة التشفِّي، وذلك أن لذَّة التشفِّي يلحقُها ذمُّ الندَم، ولذَّةَ العفو يلحقُها حمدُ العاقبة، وقد قال الله - جل وعلا -: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى: 37]، وهذا دليلٌ على أن الانتِقام يقبُحُ على الكِرامِ.
ومن طَبعُهُ الانتقامُ فهو كالغَيمِ الذي لا يُرجَى صحوُه، يغضبُ من الجُرمِ الخفِيِّ، ولا يُرضيهِ العُذرُ الجَلِيُّ، حتى إنه ليُبصِرُ الذنبَ ولو كان كسَمِّ الخِيَاطِ، ويعمَى عن الحسناتِ ولو كانت كجِبال تِهامة، له أُذُنان يسمعُ بإحداهما البُهتان، ويصُمُّ بالأخرى عن الاعتِذار، وله يَدَان يبسُطُ أحدُهما للانتِقام ويقبِضُ الأُخرى عن الحِلمِ والصفحِ، مثَلُه كمثَلِ من قال اللهُ عنه: ))وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ )) [البقرة: 205، 206].
فهل يعِي هذا أولئك الجبَّارون المُنتقِمون المُسرِفون الذي يسومون أقوامَهم سُوءَ العذاب، فيُذبِّحون أبناءَهم، ويُرمِّلون نساءَهم، ويُيتِّمون أطفالَهم، أولئك الذين باعُوا الضميرَ، ونحَروا الرحمةَ، وأخذَتهم العِزَّةُ بالإثمِ، فعلَوا في الأرضِ، وجعلوا أهلَها شِيَعًا، وقالوا مقولةَ فرعون الأول: (( سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ )) [الأعراف: 127].
غيرَ أن المؤمنين الصابرين يُردِّدون قولَ الله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ [الزمر: 36، 37].
باركَ الله ولكم في الكتابِ والسنةِ، ونفعَني وإياكم بما فيهما من الآياتِ والذكرِ والحِكمة، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.
يتبع
السبت نوفمبر 23, 2013 5:58 am من طرف سلسبيل محمد
» رنة التميز والإبداع الرائع
الأربعاء سبتمبر 11, 2013 10:30 am من طرف مجد111
» نغمة رائعةللمنشد محمد مطري سبحان ربي
الإثنين سبتمبر 09, 2013 11:55 am من طرف مجد111
» نغمة الدلال والجمال لأغلى ناس
الأحد سبتمبر 08, 2013 8:48 pm من طرف مجد111
» رنة رقيقة وناعمة تستاهل موبايلك
الأربعاء سبتمبر 04, 2013 12:57 pm من طرف مجد111
» رنة السحر إلك وبس
الأربعاء أغسطس 28, 2013 10:02 pm من طرف مجد111
» نغمتك من أجمل الأناشيد الرائعة وبصوت رائع
الإثنين أغسطس 26, 2013 9:20 am من طرف مجد111
» نغمتك نشيد رائع بصوت محمد المطري
الأحد أغسطس 25, 2013 10:20 pm من طرف مجد111
» نغمتك نشيد ياليالي لمحمد المطري
الجمعة أغسطس 16, 2013 8:38 pm من طرف مجد111